سعيد بن عامر
أسلم سعيد قبيل فتح خيبر، ومنذ عانق الإسلام وبايع الرسول، أعطاهما كل حياته ، ووجوده ومصيره.
فالطاعة، والزهد ، والسمو ، والورع، والترفع.
كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا الإنسان الطيب الطاهر .
يأتي سعيد إلى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص.
ولكن سعيد جاء يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..
خرج سعيد إلى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين
جديدين، ولقد سأله عمر يومآ فقال: " إن أهل الشام
يحبونك".؟
فأجابه سعيد قائلآ:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!
لكن لا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى
وتقدم البعض يشكون منه، وكانت شكوى مباركة، فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل .
طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها،
واحدة..واحدة
فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعآ:
" لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار ولا يجيب أحدآ بليل..
وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه،
وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا، وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..
وجلس الرجل وأطرق عمر مليآ، وابتهل إلى الله همسآ وقال:
" اللهم إني أعرفه من خير عبادك..اللهم لا تخيّب فيه فراستي"..
ودعاه للدفاع عن نفسه، فقال سعيد:
أما قولهم إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار..
" فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. إنه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم"..
وتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله.. والثانية..؟!
وتابع سعيد حديثه:
وأما قولهم: لا أجيب أحدآ بليل..
فوالله، لقد كنت أكره ذكر السبب.. إني جعلت النهار لهم،والليل لربي"..
أما قولهم: إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما...
" فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس بي ثياب أبدّلها، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".
وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين..
" فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وهم يقولون له: أتحب أن محمدآ مكانك، وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلآ: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية
الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة..
فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته و أنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب
يومها، أرتجف خوفآ من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني"..
وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..
ولم يمالك عمر نفسه ونشوه، فصاح من فرط حبوره.
" الحمد لله الذي لم يخيّب فراستي".!
وعانق سعيدآ، وقبّل جبهته المضيئة العالية...
أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من الخلق..؟
وفي العام العشرين من الهجرة، لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة
وأتقى ما يكون قلبآ، وأنضر ما يكون سيرة..
لقد طال شوقه إلى الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعهده، وتتبع خطاه..