فتاة عادية جداً
أذكر دائماً أن أتجنّب بقع الوحل عندما أسير ، وأنسى غالباً أنني مصنوع من طين . وتلك الفتاة العادية جداً والمصنوعة مثلي من طين تغزوني بنظراتها المالحة المليئة بفسيفساء الرغبة . اعتراني شعور أشبه بماء يغرق في دوامته حين قالت : أحبكَ . انسحب الدم من عروقي كما يفعل ماء المطر بين شقوق التراب في مرحلة أولى ، ثم طاف وأغرقني في مرحلة ثانية ، وأعادني من جديد إلى ساحلي القديم لأعيد تشكيل أنثاي من الرمال .
تقول لي : لا تكن رقيقاً معي ، خذني بقسوة .
- لم ؟
- لأنني أعبدك .
- بالقسوة يعبدنا الآخرون حيناً من الزمن ، أما بالرِّقة فيعبدوننا إلى الأبد .
- وهل تظن أنني أريد أن أعبدك إلى الأبد ؟
- أنت إذاً لا تعبدينني ياعزيزتي .
- وإذاً ؟
- أنت تعبدين نفسك ، وأنا المحراب الذي تتعبدين فيه .
تنزع أصابعي عن شعرها بإصبعين كما تفعل لالتقاط شعرة شابت ، يكفهرّ وجهها وتشفُّ عيناها : أكره سماعك تفلسف العواطف .
- أكره أن أراك تؤججين خيالاتي المنحرفة
- ماذا تعني ؟
- طيلة النهار وأنا أحاول انتزاع نفسي من البئر الموحلة التي تتمرغ فيها ، وفي الليل عندما تقولين لي : خذني بقسوة فإنكِ تلقين بي كدلو فقد حبله في البئر ذاتها .
في غمرة انفعالها وهي تقفز لتبتعد عن الفراغ الذي سكنته كلماتي؛ تدافعت كلمات علمت منذ البداية أنني سأسمعها : أنا أحاول أن أجعل الأمور أسهل على كلينا ، وأنت تأخذ دائماً الخيار الأصعب .
- نحن بشر ياعزيزتي ، والإنسان منذ الأزل موضوع أمام خيارين ، إما أن يحب ذاته في الآخرين ، أو أن يحب الآخرين في ذاته .. ماذا تختارين ؟ .
- أختار أن أحب الآخرين في ذاتي .
- لقد أكملت الدائرة الآن ، ولم تعودي بحاجة لوجودي .
تلك النظرة الحائرة المتسائلة توجعني مرتين ، الأولى لأنها توحي بالضياع ، والثانية لأنها تعني عدم الفهم ، تجعلني أفكر مرتين قبل أن أخرج . أمسك معصميها وأجلسها إلى جانبي ، تنصاع للحركة وتسقط باستسلامِ أوراق الأشجار في الخريف .
لاشيء في العالم .. لاشيء أبداً يمكنه أن يملأ تجاويف القلب - ولاحتى سائله - كما تفعل انحناءات جسد امرأة تجلس بجانبك على أريكة منخفضة ويشكل جسداكما بتماسهما زاوية حادة .
بصوتٍ يحاول العودة وأنا أجاهد فيض المشاعر الذي يجرفني قلت : الدائرة أجمل الأشكال الهندسية ، وهي أيضاً أكثرها جبناً ، إنها لا تملك زاوية ، إنها منحنية دائماً .
عندما نختار أن نحب ذاتنا في الآخرين فإننا بحاجة للتواصل معهم ، وحتى نمارس هذا الحب ، نحتاج دائماً أن نعرف عنهم ما يساعدنا في اكتشاف تشابهنا أو حتى اختلافنا ، أما عندما نختار أن نحب الآخرين في ذاتنا فإننا ننحني .. ننغلق .. نتقوقع على ذاتنا حتى نستطيع ممارسة ذلك الحب ، نصبح تلك الدائرة .. الدائرة كمال .. كمال مصمم للملائكة فقط ، هل رأيت مرة رسماً لإنسان تعلو رأسه دائرة ؟ .
بتلك البساطة المرعبة أجابتني : ما أعرفه أنني لا أحب رؤية دائرة تعلو رأسك ، النقص الذي نملكه ياحبيبي يجعله الاختيار كمالاً ، وفي كل مرة يتعين علي الاختيار فيها سأختارك أنت ، والنقص الذي تظنّه في كوننا مصنوعين من الطين ، أراه عندما لانستطيع أن نصنع من هذا الطين آنية من الفخار تحتويه .. تعطيه شكلاً .. تحجِّمه .
تلك الفتاة العادية جداً أعادتني إلى البداية ، بداية رحلتي في الطين نحو طين أكثر نضجاً