وسط هذا الممر الرمادي الطويل، الذي يبدو وكأنه لا ينتهي وسط الأكفان البيض المتحركة ممرضات وأطباء تتجوّلون بين جموع المرضى المتعبة التي تتجوّل وتثرثر، وكأنَّ الثرثرة بلسم لوجع القلوب الذي لا تنفذ فيه العقاقير...
وسط هذا السديم، كانت "شيرين" تقفز وهي تركض نحوي، فأفتح ذراعي لأستقبل جسمها الضئيل، وأتلقى قبلتها التي تفيض شوقاً ومحبة، وهي تصر أن تطبعها على وجنتي الواحدة تلو الأخرى...
كانت شيرين زهرة بنفسج صغيرة آسرة بفتنتها تبتسم وتثرثر، وكانت تحدثني دائماً عن بيتهم في حلب، بيتهم الذي يطل على حديقة واسعة تلعب فيها مع أولاد الحارة تحدثني عن الأراجيح والقطط الصغيرة والأزهار الملونة، وكانت تفيض حولي كرائحة زكية، فأحسها أقرب إلى الخيال بنظافتها وأحاديثها الملونة الزاهية كانت تنتشلني للحظات من عالم آلي جامد لتجعلني أطل على عالم طفولي، فأتمنى ولو لبرهةٍ أن أرتمي فيه وأبكي بفرح وأنسى عالم الإسمنت والأجهزة التي تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الإنسان...
ماكانت شيرين تترك يدي حتى أعدها أني سأزور بيتهم في حلب، وأني سألعب في الحديقة معها ومع أولاد الحارة، وآخر ماكانت تقوله قبل أن تفارقني:
ـ هل ستأتين غداً؟..
فأجيب مؤكدة: "بالطبع يا صغيرتي الحلوة...
كانت شيرين تهب لي أشياء كثيرة، أعظم من الكتب الفلسفية أكبر من المحاضرات القيّمة أعمق كثيراً من جدلنا، وأحاديثنا التي لا تنتهي إلا بصداع وفراغ... كانت كلماتها المتناهية في البراءة والبساطة تحرك في نفسي المثقلة آلاف المشاعر...
كنت أحتويها بمسامي، بروحي، وبحواسي كلها، وعندما سألتني ببساطتها وابتسامتها الرقيقة هل صحيح سيستأصل الطبيب عيني؟...
ذهلتُ... حاولت أن أكذب، وهالني أن أكون كاذبة أمام ملاك صغير، كان سؤالها بالبساطة نفسها، والابتسامة ذاتها وهي تسألني كعادتها: هل ستأتين غداً؟..
ـ من قال لك هذا يا شيرين؟..
الطبيب قال لأمي أنه سيستأصل عيني هذه...
وأشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينيها المغطاة بضماد كبير على الوجه الطفولي المتألم.
قلت بأسى عميق: بلى يا عزيزتي...
آه، يا طفلتي، أي عزاء أقدّمه لك؟.. هل أُريك معنى الحقد في نفسي هل أشرح لك أن السرطان يأكل عيون أطفال أبرياء؟!...
سمعتها تقول: داخل عيني دملة صغيرة، ألا تشفى بالقطرة؟...
ـ كلا، لا تشفى يا شيرين، لا تحزني يا طفلتي، فأنت سترتاحين من مرض متعب، ثم سيضع لك الطبيب عيناً من زجاج، عيناً "جميلة جداً"، لا أحد يحس أنها من زجاج...
ـ ولكن، أنا سأشعر أنها من زجاج ولن أرى بها...
ـ ابق سعيدة يا شيرين، أنت في عمر الفرح، وتملكين عيناً أخرى تبصر، والذين يبصرون قلة يا حبيبتي...
ـ هل ستأتين غداً؟..
ـ أجل يا صغيرتي...
في اليوم التالي لم تستقبلني شيرين، لفّني الرواق الرمادي الطويل، ضغط على روحي بروائح المرض والأدوية، ومشيت بلا بسمة... لم أطل اليوم على العالم الطفولي الرائع... كانت شيرين مُخّدرة في غرفة العمليات، وكانت عينها المتهتكة المتورمة تنزف لمغادرتها الوجه الحبيب لتترك هوة، حفرة، يملؤها فيما بعد زجاج بارد ميت...
بعد أيام رأيتُ شيرين تتجول كعادتها في الرواق، ركضت صوبي، ولكن هذه المرة كأنها تحتمي من شيء وحاولت ألا تظهر ما يعتمل في داخلها وهي لا تتبين تماماً ثقل مشاعرها...
قلت لها بفرح: لأغطي حزني العميق: الحمد لله على السلامة يا شيرين...
فإذا بصوتها يأتيني حزيناً كئيباً: ولكني متعبة... وعيني التي بقيت لي حمراء... أصابني هلع، خشيت أن أنظر إليها، فقد يكون المرض الخبيث انتقل إلى العين الثانية السليمة... وحدست أن شيرين سيجري لها عملية أخرى، وأنها لن تعود قادرة على القفز واللعب في الحديقة الغنّاء مع الأولاد...
هرمتُ، هرمت أنا يا شيرين، يثقبني الحزن، خرساء أنا، وتنبهتُ لها: تقول: ولكن لماذا عيني هذه حمراء؟!...
ـ لاتهتمي يا صغيرتي، ستشفى، يجب أن تفرحي الآن فقد تخلصت من عين مريضة، كانت ستؤذيك كثيراً...؟
فرحت.... صدقتني... دائماً نحن نكذب على الصغار، ودائماً هم يصدقون، وعندما يكبرون يكتشفون أننا كنا نكذب فيهرمون..
أسرعت تحضر علبة كبيرة، وتقدم لي شوكولاتات كثيرة أخذتها منها بامتنان وتركتها وأنا أعدها أنني سأزورهم في حلب...
اعتدتُ كلَّ صباحٍ على البلسم الرقيق، على العصفور الطليق، وكان الأمل يكبر ببقاء نظر شيرين في العين الأخرى سليماً... وجرت مباحثات حول تخريجها من المستشفى... وعادت تحدثني عن شوقها إلى حلب، إلى الحديقة، إلى أولاد الحارة، وأخذت تعرب عن لهفتها للسفر في القطار وسألتني بإلحاح:
ـ لماذا لم يضعوا لي عيناً من زجاج بعد؟!..
ـ ولكن الوقت لم يحن بعد صغيرتي، ألا يجب أن يندمل الجرح أولاً؟...
ـ آه معك حق...
راحت شيرين تأخذُ من كل مريض تذكاراً، وتعطي لكل من أحبته تذكاراً منها، أعطتني أسواراً نحاسياً عتيقاً وصغيراً، رفضتُ في البداية، ولكن أمام إصرارها قبلت... وأخذت مني قلماً ملوناً بالأخضر والأحمر والأسود... فرحتُ به لأنه يكتب ثلاثة ألوان معاً... وكانت كل يوم تستقبلني وهي تحمله مزهوة..
ذات صباح لم أر شيرين، ذهبت أتفقدها في سريرها رأيته فارغاً، هل رحلتِ بهذه السرعة؟.. هكذا... ودون أن تودعني، وجاءني صوت جاف:
ـ أدخلوها إلى غرفة العمليات...
وتمثل لي الجزع سرطاناً يغزو قلبي ولا أملك شيئاً تجاهه..
وتسمرت نظرتي جامدة بلهاء على السرير الضيق الفارغ، ونتحت دموع باردة من عيني بقيت معلقة كأنها تجمدت إلى الأبد غشاوة لن تزول...
وخرجت شيرين من غرفة العمليات... وجه طفولي حلو بلا عينين!!...
لم أصدق نظري... الطفل يشيخ، كيف يشيخ الطفل بهذه السرعة؟...
كان الحزن والإعياء يحطّمان كيانها الغض، وكدت أجن غير مصدقة أنها لن تراني، وتملكني شعور بالجريمة والذنب، كانت ساهية ليست من هذا العالم... كانت غارقة في بحر من السواد لا بصيص فيه، هربت لم أستطع أن أعمل شيئاً...
في المساء كانت روحي تهيم هناك حيث ترقد شيرين ووجدت نفسي أسارع إليها... بدا الرواق أضيق مما هو وأشد عتمة، وخيم الهدوء على كل شيء هدوء كئيب كصمت الجنازة، جنازة إنسان محبوب...
وترددت قبل الدخول إلى الغرفة التي تحتوي شيرين مع عدة مريضات من العجائز، رأيتها من بعد، جسداً معذباً... روحاً يئن بصمت ويهيم في لجة من السواد لا مخرج منها، ويداها مسدلتان فوق الغطاء الأبيض المتسخ بدا صدرها يعلو ويهبط بإيقاع ثقيل... خنقتني حلقة حديد من حنجرتي، وكانت الصراعات في داخلي تنعكس على وجهي ألواناً عابسة متتالية...
اقتربت من شيرين وأمسكت يدها، وقبل أن أتفوه باسمها، أحسستها تبتسم بكل الألم الذي يعتصر روحها، كانت تفهم أكثر منا نحن الكبار، ماكانت بحاجة لأية كلمة عزاء تافهة تسمعها مني، من أي شخص كان... كان صمتها مهيباً... فلم أجسر على خدشه بكلمة واحدة...
وعندما لفظت اسمها وأنا أحاول بكل جهدي أن أبدو طبيعية، لم تقل شيئاً، ولفنا صمت ثقيل كأنه يسبق إصدار حكم بالإعدام وقالت وقد كبر صوتها بالحزن:
ـ سأرحل غداً، سيأتي أبي ليأخذني...
ولم أتمالك نفسي أن قلت: غداً؟! كلا لن ترحلي...
وبكل هدوء جاء صوتها من بعيد محملاً بأسى لا يوصف...
ـ غداً سأرحل...
ووجدتها تمد يدها تحت المخدة كأنما تبحث عن شيء، وبعد لحظات أخرجت القلم الملون بالأحمر والأخضر والأسود ومدته أمامها في الفراغ وقالت: هذا لك... سأعيده...
واختنق صوتها...
هززتها من يدها وقلت كلا: إنه ذكراي يا شيرين...
ذكرى مني لك، وبكل رصانة قالت: لم يعد له لزوم، لن ألون به...
وأصررت، فأطبقت أصابعها النحيلة فوقه، وغرقت في السواد اللا متناهي، فاجأني سؤالها:
ـ أما زلت تحتفظين بسواري الصغير...
ـ سأحتفظ به مدى العمر..
ابتسمت هذه المرة، شعت روحها بابتسامة فاضت حولها وغمرتني... كان اللقاء موجعاً لكلينا طلبت إليَّ أن أفتح درجها المجاور للسرير، رأيت فيه كثيراً من أشياء شيرين وتذكارات عن المرض، قالت: تفضلي خذي شوكولا...
أجدر بك أن تقدمي لي خلا؟؟ يا صديقتي لأشربه...
حاولت أن أرطب الجو، قلت لها: كم أنت محبوبة يا شيرين، تملكين كل هذه الأشياء تذكارات من المرضى!...
وجاءني صوتها من وراء السحاب: وما الفائدة؟ هل سأراها بعيون من زجاج؟!..
كان الضباب يلفني ويعزلني، وحدثت نفسي: بل سترينها يا شيرين، ليس بعيون من زجاج، فأنت تبصرين يا عزيزتي، روحك تبصر، نحن الذين عيوننا من زجاج، وقلوبنا من حجارة، أنت تبصرين يا حبيبتي، أحسك ترين أكثر من هذه العيون المفتحة ببلاهة.
وتركتها بعد أن قبلتها مراراً، كانت شيرين تبكي، سمعت نحيباً، تبكي بلا دموع بلا عيون، بكاءً حقيقياً..
وقبل أن أترك يدها، سألتني بخيبة أمل وأسى:
ـ أما زلت تريدين زيارتي في حلب؟..
ـ سآتي خصوصاً لأراك..
واحتواني ا لرواق الرمادي الضيق، كان يبتلعني وسرت وحيدة وأنا أتألم... لن تقفز شيرين بعد اليوم، راكضة نحوي لتلقي بجسدها النحيل بين ذراعي، وتقبلني باهتمام وحب طفولي طاهر..
القصة للكاتبة السورية المتألقة د هيفاء بيطار