رحم الله أيام زمان ... يوم كان الشاب يعرف مسؤوليته نحو نفسه ونحو عائلته ونحو وطنه , وهو لم يتجاوز بعد السابعة عشرة .
وأنا في الطريق رأيت رأيت شارع , وهالني ما رأيت من مناظر مؤذية تثير غضب الحليم وتدعو الى الاسف الشديد !
تأملت شابين أنيقين في مظهرهما ورقيقين في حركاتهما يقفان عند ناصية الشارع يراقبان الغاديات و الرائحات .. ويبديان ملاحظاتهما على كل سيدة بأسلوب يمجه الذوق السليم , فضلا عن مخالفته للقانون وقواعد الأداب العامة , ووقفت بالقرب منهما استمع الى ملاحظاتهما , ثم اقتربت منهما واشتبكت معهما في حديث انتهى بأن اعتذرا وانصرفا : وهذا شاب أخر يقف أمام واجهة احد المحلات التجارية يتحدث الى كل سيدة بكلمات كلها غزل مكشوف تخرج من أطراف شفتيه ... عربية مختلطة بكلمات فرنسية تارة وانكليزية تارة اخرى ... ولم تحتمل إحداهن هذا الغزل السخيف فصفعته على وجهه , وكان منظره يدعو الى الأسف وهو يسابق الريح بساقيه !
وشاب ثالث يدل مظهره على انه من ابناء الارستقراطيين وتدل سيارته الفخمة على ان والده من كبار الاثرياء , وكانت طريقته في الغزل هي لفت نظر كل سيدة ببوق سيارته ذي النغمة الغريبة .. فاذا التفتت اليه إحداهن فتح باب سيارته وأومأ لها برأسه يدعوها الى الركوب وقد علمت أن هذا الشاب مضى عليه اكثر من ساعتين وهو يحاول مغازلة السيدات . ولم تكن معي سيارتي الخاصة , فركبت الاوتوبيس وجاء مكاني بالقرب من شابين ... وعرفت من حديثهما انهما من طلبة الجامعة , وكان حديثهما كله سخطاً وتذمراً من قسوة الامتحانات التي أدت الى رسوبهما وكان عليهما ان يستعدا لدخول الدور الثاني .. وتركا حديث العلم و المستقبل وانتقلا الى حديث السهرات و المغامرات و العلاقات الغرامية . وكانا يتحدثان بصوت مسموع كأنهما في سيارتهما .
هذه صورة سريعة من مئات الصور التي تدل على تفاهة شباب اليوم , ومدى استهتاره بالمستقبل والقيم الاخلاقية و الأداب العامة .. وقد عدت بذاكرتي الى الوراء .. الى ربع قرن مضى , وقارنت بين شباب اليوم الذي يحب الحضارة و المدنية العصرية في طراوة الحديث وارسال الألفاظ المختلطة من العربية و الانكليزية و الفرنسية من أطراف الشفاه , و التخنث في السير و الجلوس , وقضاء الوقت في مغازلة السيدات و السخط و التبرم بالعلم و الامتحانات .. وبين شباب الامس الذي كان يلتهب حماسة لقضية بلاده , وغيرة على الاخلاق و الأداب , ويقضي اوقات فراغه في الاستزادة من العلم و الاستعداد لتلبية نداء الوطن لا يعرف لذة غير لذة الكفاح .
مقال ما زال يصلح الى يومنا هذا ، ولكن المقصود فيه اباؤنا او اجدادنا حتى ، هذا الكلام القاسي موجه لهم في سلسلة عدم رضى الجيل القديم عن الجديدة وهي سلسلة تنتهي في اللانهاية.
نشر المقال في مجلة الصحة والتعليم وهي مجلة ( طبية – ثقافية – اجتماعية ) عام 1954