النذور حلال ام حرام؟

تعتقد أم عمر إلى درجة اليقين أن السر الكامن وراء احتواء رحمها لجينات صبي بعد حمله لخمس بنات نذر أطلقته في مقام السيدة زينب بعد أن نغّص لقب أم البنات حياتها مع زوج يحلم بإنجاب ذكر يخلّد اسمه، وهو ما تحقق لاحقاً لتودّع هذه المرأة لقباً لازمها لسنين طوال مهدداً علاقتها الزوجية، إنما لتعيش تهديداً من نوع آخر لغرغرينا لا تعرف متى تحرمها من إحدى قدميها وهي التي قطعت عهداً بالسير إلى المقام منتعلة حذاء محشواً بالمسامير والبحص والزجاج المكسر كنوع من رد الدين، حيث لم تتردّد بإيفاء النذر بعد إنجاب الصبي المنتظر، وما كان من الشيخ الموجود في المقام إلا أن قام بمنعها من الدخول حفاظاً على طهارة المكان.

تقول: خلعت حذائي وغسلت قدماي من ماء الضريح وعندما خرجت من المقام قصدّت المشفى على الفور وهناك تم إدخالي إلى قسم الإسعاف لأحقن بإبرة كزاز مع تحديد مواعيد جلسات علاجية كون تشخيصات الطبيب أكدت أن وضعي خطير ويستدعي العلاج على المدى الطويل.


باطل وحرام
درج البعض من الناس على زيارات مقامات أولياء الله للتبرك بها، حيث يشدّون الرحال إليها في المواسم، أو عند الحاجة وينذرون النذور في حال تحقق أملهم بغض النظر عن ماهيته، فالنذر أسلوب قديم من أساليب التقرّب لله، الأمر الذي يجده سماحة العلامة نزيه الصوص إمام مسجد الإمام جعفر الصادق في دمشق باطلاً لما فيه من إهلاك للنفس، فوضع المسامير في الحذاء والمشي إلى المقامات البعيدة (حرام) كون المؤمن أعزّ عند الله من الكعبة، والقاعدة الشرعية تقول: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وبناء عليه يعتبر ما سبق محاولة للتقرب من الله محرّم جراء الجهل الذي يلفّ العوام، وفقاً للعلامة الصوص.

ذاك الجهل الذي زاد إصرار أم علي (امرأة ستينية) على إيفاء نذرها فكانت رنة الهاتف المبشّرة بقبول ابنها في وظيفة حكومية بمثابة صافرة الانطلاق في الساعة الثانية عشرة ليلاً حافية بين الجبال المظلمة بما تخبئه من أفاعٍ سامة وربما حيوانات مفترسة وصولاً لمقام الشيخ علي في قرية الصنوبر، وهو الذي سمع شكواها واستجاب لمطالبها، لتروي قصة مسيرٍ استمر لأكثر من خمس ساعات، تكفّل بزرع الأشواك والحصى في قدميها، فيما رفضت ولوج عيادة أي من الأطباء لما في ذلك من إنقاص لقيمة المقام وقدراته الخارقة، مطالبة إيانا بالتلفظ بعبارة واحدة.. تقبّل الله.

وهنا يبدي الشيخ نضال هلال إمام جامع الإمام علي بن أبي طالب في مدينة جبلة تخوفاً على الدين من هذه القناعات التي باتت توحّد جهلة الدين مع اختلاف اسم المقام المقصود تبعاً للرموز الدينية في هذه الطائفة أو تلك، مؤكداً أن إيذاء النفس خلال إيفاء النذر حرام، لأنها أمانة من الله، أما اعتقاد بعض العوام بقدرة المقامات على شفاء الأمراض وتقديم المساعدات فهذا كفر، لأن المكرّم من الله لا يستطيع تكفير الناس، على حد قوله.

مغالطات دينية
وضمن آلية التفكير السائدة والتي تجد في النذر ركناً أساسياً من دعائم الإيمان، تتعدد الشواهد وتكثر، مع احتمال عواقب صحية وخيمة، أفشلت هذه المرة، ما أنجزته مشارط الطبيب، أنقذت أطراف أم جورج من روماتيزم أثقلها بالأوجاع، لتفي نذراً أعادها إلى نقطة الصفر، وهو أن تمشي من جرمانا إلى صيدنايا بقصد زيارة الدير، حيث استلزم السير أياماً عدة أوقفه إغماء مفاجئ لتبقى طريحة الفراش، تقول: لا المرض ولا حتى إذا دور بطيخة سيمنعاني من إيفاء نذري، وبهذا الخصوص ينفي الخوري نزار مباردي كاهن كنيسة نيقولاس للروم الأرثوذكس وجود شيء مسند في الكتاب المقدس يجيز النذور التي تعود لعهود قديمة كان الهيكل فيها مقصد الناذرين ومجيء المسيح كان بمثابة مرحلة انتقالية في مسيرة النذور محت ما سبقها وحرمت العهود التي لا تمت للدين بصلة.
وتأتي إجابة الشيخ أبو أمين حسن خادم مقام الخضر في جرمانا داعمة لما سلف ذكره فبرأيه الطقوس الغريبة مثل المشي إلى المقامات ابتداع شخصي يتحمّل الشخص مسؤوليته غير أن المال للفقير أفضل ما ينذر ولا تشوبه شائبة في الدين.

وإيفاء النذور لم يعد حكراً على العوام إلا أنه انتقل إلى رجال دين يحثون على تلك الممارسات المغلوطة ليسارع ضياء الحسن إلى إيفاء نذره بإيعاز من أحد المشايخ والذي أمره ببيع بيته أو اقتراض الأموال من أصدقائه.
وهل كشف الشيخ المتبصّر ستار المستقبل حتى يوعز لذلك الفقير بالتخلي عن بيت و هو رأسماله الوحيد في هذه الدنيا.

إله مادي
(هذه الطقوس التي نسمّيها نذوراً في الحقيقة ليست من التسمية بشيء كون المعتقدات الباطلة تجعل من إلهنا (مادي) عندما نطلب منه أن يؤدي ما نحن بحاجة إليه، فهذا طبيعي لأنه القادر على كل شيء، لكن المصيبة تكمن عندما نشترط على الله أن نقدّم مقابلاً إليه في حال تحققت رغباتنا)، هكذا يدين الدكتور محمد حبش رئيس مركز الدراسات الإسلامية النذور، محمّلاً إياها تحويل العلاقة مع الله إلى تجارية، فالنذر ليس فرضاً وليس سنة وغير مستحبّ من الناحية الشرعية، وهنا لا أقصد الصدقة طبعاً إنما ما تمّ استعراضه من نذور لا ترضي الله.
على حين يبرر الدكتور تيسير حسون (أخصائي نفسي) الاحتماء بالنذور بقناعة مترسّخة لدى الناس بضرورة وجود وسطاء وشفعاء يكونون بمثابة صلة ما بينهم وبين الله لما يهبه ذلك من طمأنينة نفسية مرجوة يعتقد من يطلق النذر أنه سيحصل عليها في مواجهة ما يعانيه من قلق الوجود وقلق الحياة اليومية.
ويضيف: (هي خلفية نفسية قريبة من الصوفية أو نوع من المازوشية تجاه الله).

داء مشترك
لا تقتصر مسألة النذور على دولة أو مذهب لتغدو ثقافة شعبية بامتياز، حيث جاءت نتائج دراسة قام بها د.سعيد عويس من مصر والتي حللت مضمون 163 رسالة من الرسائل المرسلة إلى ضريح الإمام الشافعي تضمنت مختلف الشكاوى والطلبات لتؤكد أن انتشار الظاهرة يغطي حوالي ثلاثة أرباع محافظات مصر، وقد تبيّن أن معظم الرسائل جاءت من الريف من قبل أناس يزاولون الأعمال الزراعية ويعانون من نسبة أمية مرتفعة.
النتائج السابقة تنسحب من وجهة نظر أحد الأخصائيين الاجتماعيين على مجمل المجتمعات التي تعاني من ضائقات مختلفة سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية، وما المجتمع السوري من وجهة نظره بمنأى عن تلك المنغصات التي تؤرّق أبناءه جاعلة منهم فريسة سهلة لنذر اعتقدوا أنه سيمنحهم الحلم المرجو فاستساغوا الآلام التي غدت بمثابة دين مستحق لا بد من إيفائه.